رؤية في الشعر الإسلامي بين المضمون والشكل
عند الحديث عن الأدب الإسلامي
يتبادر إلى الذهن الشعر في مقدمة فنون الأدب باعتباره فن العربية الأول في
القول، وهو الذي سيطر على وجدان كلّ أديب ومثقف وعالم في العربية، يقرأ
ويتحدث بلسانها. والشعر تراث عربيٌّ قديم سابق على الإسلام
وهو مناط إبداع العرب في فن القول، به حفظوا تراثهم الحضاري، والفكري،
والاجتماعي والفنّي واللغوي. فهو بحق كما قال النقّاد صيوان حكمتهم،
وديوان علمهم ومستودع مآثرهم ومسجَّل مفاخرهم، ومؤدب ناشئتهم.
وظل للشعر والشاعر في الإسلام دور كما كان في الجاهلية، واجتمع
حول رسول الله r جماعة من الشعراء يدفعون عنه وعن الدعوة، وينافحون بسلاح
الكلمة إلى جانب سلاح الرمح والسيف، وظلت بعض مضامين الشعر عند الفريقين
فريق المؤمنين والمشركين واحدة، وإن تضمن شعر المؤمنين عناصر من دعوة
الإسلام.
هذا وقد ظن المشركون العرب القرآن شعرًا، لأنهم لم يعرفوا قولاً
يتضمن هذا المستوى الرفيع من الحكمة والمعارف إلا في شعر كبار شعرائهم.
كذلك عرفوا عند سماع القرآن نسقًا من القول له أسْرٌ لم يدركوه إلا في
الشعر.
وجاء القرآن في هذا الشكل الجديد الذي ظنه العرب شعرًا وليس بشعر.
وحمل لواء الدعوة ((الإسلام)) بمضمون السلام للبشر جميعًا، فهو ليس رسالة
مقصورة على العرب وحدهم. والسلام هو أنشودة الإسلام في معناه المطلق:
السلام بين الفرد ونفسه وبين الفرد والمجتمع، وبين المجتمعات البشرية
جميعًا.
هذا المضمون الشامل للبشر تشكل في هذا الشكل البياني المعجز ليبقى
حجةً أبديةً وكتابًا خالدًا، وذكرى يرجع إليها المؤمنون في كل عصر ومكان.
ولم تذهب دولة الشعر ولا زال سلطانه بنزول القرآن، وحدد القرآن
مجال الشعراء ومجال الشعر في عصر الدعوة بقوله تعالى: "وَالشُّعَرَاءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ
يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا".
فلم يعد الشعر هو الحاكم في دولة الإيمان، ومدينة الإسلام
الفاضلة، كما كان في دولة الجاهلية، زمن أن لم يكن للناس كتابٌ يهديهم
بوحي السماء.
ومع هذا فإن الشعر لم يتخلَّ عن مكانه، وظل مواكبًا لمسيرة الأمة
الإسلامية العربية، مصاحبًا للقرآن، إلاَّ أنه اقتصر على مجالاتٍ بعينها،
ولم يعد وحده الحاكم في ثقافة الأمة، والمكوّن لوجدانها المعرفي، بل أصبحت
السيادة للقرآن، واستعان به العلماء لتفسيره، وتوضيح مراميه باعتبار بيان
القرآن بيانًا عربيًا كالشعر.
وفي عصر الخلافة الراشدة ظلَّ الشعر محافظًا على الشكل القديم بكل
تقاليده وأساليبه. وربما انحرف بعض الشعراء ممن لم تتمكن القيم الإسلامية
من وجدانهم، فأجروا على لسانهم ما كان يجري على ألسنة الشعراء قبل
الإسلام، واعتبر في دولة الإسلام من هجر القول؛ من أمثال الحطيئة الذي
عوقب على تمسكه بالقيم الجاهلية في هجائه للزبرقان بن بدر.
وكان العصر الأموي عصر صحوة للقيم الجاهلية في الشعر؛ لأن الخلفاء
الأمويين شجعوا على بعث العصبية القبلية، وغالوا في التعصب للعرب، وفي
إحياء كل ما كان لهم من التقاليد والمآثر التي أبقى الإسلام على الصالح منها، ودعا إلى ترك الفاسد والمؤدي إلى الشرّ والضلال.
ومن هنا كان الشعر الأموي عند فحوله أمثال جرير والفرزدق والأخطل
جاهليَّ الشكل والمضمون، وإن جرت في عروقه بعض الدماء الإسلامية مما حصّل
الشعراء وعايشوا للقرآن والعبادات والممارسات الإسلامية في دولة الإسلام.
إلا أن الروح الإسلامية في الشعر بدأت تقوى من جديد عند بعض شعراء
الحجاز وفي أخريات الدولة الأموية وفي بعض الأمصار. وحاول جماعة من هؤلاء
أن يعدِّلُوا من الشكل الجاهلي للقصيدة، حتى إذا ما انقضت دولة الأمويين
وصدأت النعرة العصبية للعرب في دولة العباسيين، وحلت العصبية الإسلامية
محلّها لتضم تحت مظلتها كل الشعوب التي دخلت الإسلام ظهرت طبقة من شعراء
الموالي من المحدثين من غير الأصول العربية ليأخذوا بزمام التجديد في شكل
القصيدة ومضمونها.
وكانت موجة التجديد التي ركبها هؤلاء الموالي عارمة، غالت في
عدائها للتقاليد الفنية والمضامين القديمة للشعر، فطالبت بنبذ كلّ ما
يذكّر بما للشعر القديم من الصيغ، والصور الصحراوية والبدوية، وإحلال
الصور والصيغ والتعبيرات المستحدثة، من موافقة لغة الحضر التي هذبتها
الثقافات الوافدة، والمعايشة للحياة الجديدة في الأمصار والمدن التي
اختلطت فيها تلك الثقافات.
وكان على رأس دعاة التجديد في شكل القصيدة ومضمونها بشار بن برد
وأبو نواس وأبو تمام وابن الرومي. وكان لكل منهم إجتهاده، فأحدثوا في
تقنيَّة الشعر أو صنعته ما عرف بالبديع، وهو كلُّ ما خرج به هؤلاء على
المألوف والمتوارث من خصائص الصنعة الشعرية عند القدماء في بناء القصيدة
وموضوعاتها ومضامينها ومعانيها وتراكيبها وصياغاتها وصورها، وأدخلوا على
إيقاعاتها وأنغامها عناصر صوتية مبتدعة، فيما عمدوا إليه من الترصيع
والجناس الصوتي بين الحروف والكلمات والنبرْ الهامس والمجهور، الممتد
والمبتور، كما حاول كلٌّ من أبي نواس وأبي العتاهية أن يبْتدعا في قافية
الشعر وعروضه بإدخال أعاريض جديدة، وقوافي غير مألوفة.
وهكذا ظهر لون من الشعر رآهُ بعض العلماء الذين اعتادوا على الشعر
القديم خروجًا أو انحرافًا فأنكره بعضهم، وحاول آخرون قبوله على مضض.
والمتأمل لحركة شعر الموالي والمحدثين يرى فيه محاولة من هذه
الطبقة المتأثرة بالإسلام دينًا وثقافة ونهج حياة دون أن تجري في دمائهم
العصبية للعرب وطريقتهم في الشعر، يستطيع أن يتبين اتجاهًا إسلاميًا
بمفهومه العام في الشكل والمضمون.
وهو كذلك لأنه نتاج جديد لفن الشعر وليد الحضارة الإسلامية بكل
معطياتها وميراثها العربي والمختلط الوافد. ولا نُغالي إذا ما قلنا إن
حركة أصحاب البديع ومن أعقبهم من شعراء القرون التالية أنشأت شعرًا إسلامي
الشكل والمضمون، لأنه وليد هذه الحضارة الإسلامية التي بعثها القرآن ووضع
أسسها الممارسات والتوالد والامتزاج بين الثقافات والإسلام.
ونلاحظ أن عناصر الثقافة الإسلامية وفي مقدمتها القرآن والحديث
والتاريخ الإسلامي قد دخلت بصورة أو بأخرى في نسيج هذا الشعر، فأصبحنا نرى
كثيرًا من الشعر العربي منذ القرن الرابع الهجري يستلهم هذه العناصر،
وتجري في عروقه المعاني المستلهمة من القرآن الكريم، ويوظِّفُ الشاعر في
سَدى قصائده ولحمتها ألفاظه، وتعبيراته، كما يوظف عناصر أخرى من الأحاديث
أو مصطلح العلوم الإسلامية كالفقه، والنحو، وعلوم اللغة، والعروض وما إلى
ذلك وتصبح هذه العناصر متضافرة مع المضمون الإسلامي في موضوعات أخرى لا
تشي بإسلاميتها علانيةً، وإنما تفصح عن موقف إسلامي من الكون والحياة
والناس.